فصل: تفسير الآية رقم (44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


سورة الأنفال

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنفال‏}‏ أي الغنائم يعني حكمها، وإنما سميت الغنيمة نفلاً لأنها عطية من الله وفضل كما سمي به ما يشرطه الإمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على سهمه‏.‏ ‏{‏قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول‏}‏ أي أمرها مختص بهما يقسمها الرسول على ما يأمره الله به‏.‏ وسبب نزوله اختلاف المسلمين في غنائم بدر أنها كيف تقسم ومن يقسم المهاجرون منهم أو الأنصار‏.‏ وقيل شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غناء أن ينفله، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ثم طلبوا نفلهم وكان المال قليلاً فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات‏:‏ كنا رِدْءاً لكم وفئة تنحازون إلينا، فنزلت فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء، ولهذا قيل‏:‏ لا يلزم الإمام أن يفي بما وعد وهو قول الشافعي رضي الله عنه، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ لما كان يوم بدر قتل أخي عمير فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوهبته منه فقال‏:‏ ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلاً حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ سألتني السيف وليس لي وأنه قد صار لي فاذهب فخذه‏.‏ وقرئ «يسألونك علنفال» بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها، ويسألونك الأنفال أي يسألك الشبان ما شرطت لهم‏.‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ في الاختلاف والمشاجرة‏.‏ ‏{‏وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ‏}‏ الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله وتسليم أمره إلى الله والرسول‏.‏ ‏{‏وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ فيه‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ فإن الإيمان يقتضي ذلك، أو إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان بهذه الثلاثة‏:‏ طاعة الأوامر، والاتقاء عن المعاصي، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا المؤمنون‏}‏ أي الكاملون في الإيمان‏.‏ ‏{‏الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ فزعت لذكره استعظاماً له وتهيباً من جلاله‏.‏ وقيل هو الرجل يهم بمعصية فيقال له اتق الله فينزع عنها خوفاً من عقابه‏.‏ وقرئ ‏{‏وَجِلَتْ‏}‏ بالفتح وهي لغة، وفَرَقَتْ أي خافت‏.‏ ‏{‏وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً‏}‏ لزيادة المؤمن به، أو لاطمئنان النفس ورسوخ اليقين بتظاهر الأدلة، أو بالعمل بموجبها وهو قول من قال الإِيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية بناء على أن العمل داخل فيه‏.‏ ‏{‏وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ يفوضون إليه أمورهم ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً‏}‏ لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل، ومحاسن أفعال الجوارح التي هي العيار عليها من الصلاة والصدقة، و‏{‏حَقّاً‏}‏ صفة مصدر محذوف أو مصدر مؤكد كقوله‏:‏ ‏{‏وَعْدَ الله حَقّا‏}‏‏.‏ ‏{‏لَّهُمْ درجات عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ كرامة وعلو منزلة‏.‏ وقيل درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم‏.‏ ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ‏}‏ لما فرط منهم‏.‏ ‏{‏وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ أعد لهم في الجنة لا ينقطع عدده ولا ينتهي أمده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ‏(‏5‏)‏ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏6‏)‏ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ‏(‏7‏)‏ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق‏}‏ خبر مبتدأ محذوف تقديره‏:‏ هذه الحال في كراهتهم إياها كحال إخراجك للحرب في كراهتهم له، وهي كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة‏.‏ أو صفة مصدر الفعل المقدر في قوله‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ والرسول‏}‏ أي الأنفال ثبتت لله والرسول صلى الله عليه وسلم مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراجك ربك من بيتك، يعني المدينة لأنها مهاجرة ومسكنه أو بيته فيها مع كراهتهم‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ‏}‏ في موقع الحال أي أخرجك في حال كراهتهم، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشأم وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل وعمرو بن هشام، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال، فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة، فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول، عيركم أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً، وقد رأت قبل ذلك بثلاث عاتكة بنت عبد المطلب أن ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت في مكة إلا أصابه شيء منها، فحدثت بها العباس وبلغ ذلك أبا جهل فقال‏:‏ ما ترضى رجالهم أن يتنبؤوا حتى تتنبأ نساؤهم، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة ومضى بهم إلى بدر وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوماً في السنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي ذفران فنزل عليه جبريل عليه السلام بالوعد بإحدى الطائفتين إما العير وإما قريش، فاستشار فيه أصحابه فقال بعضهم‏:‏ هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له إنما خرجنا للعير، فردد عليهم وقال أن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا‏:‏ يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وقالا فأحسنا، ثم قام سعد بن عبادة فقال‏:‏ أنظر أمرك فامض فيه فوالله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال مقداد بن عمرو‏:‏ امض لما أمرك الله فأنا معك حيثما أحببت، لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى ‏{‏اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون‏}‏ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ «أشيروا عليَّ أيها الناس» وهو يريد الأنصار لأنهم كانوا ‏(‏عددهم‏)‏ وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم برآء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم، فتخوف أن لا يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة، فقام سعد بن معاذ فقال لكأنك تريدنا يا رسول الله فقال‏:‏ أجل، قال‏:‏ آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله تعالى، فنشطه قوله ثم قال‏:‏

‏"‏ سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ‏"‏ وقيل ‏"‏ إنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من بدر قيل له‏:‏ عليك بالعير فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح فقال له «لم» فقال‏:‏ لأن وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك، فكره بعضهم قوله ‏"‏‏.‏ ‏{‏يجادلونك فِي الحق‏}‏ في إيثارك الجهاد بإظهار الحق لإيثارهم تلقي العير عليه‏.‏ ‏{‏بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ‏}‏ لهم أنهم ينصرون أينما توجهوا بإعلام الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ‏}‏ أي يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت وهو يشاهد أسبابه، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم إذ روي أنهم كانوا رجالة وما كان فيهم إلا فارسان، وفيه إيماء إلى أن مجادلتهم إنما كانت لفرط فزعهم ورعبهم‏.‏ ‏{‏وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين‏}‏ على إضمار اذكر، وإحدى ثاني مفعولي ‏{‏يَعِدُكُمُ‏}‏ وقد أبدل منها‏.‏ ‏{‏أَنَّهَا لَكُمْ‏}‏ بدل الاشتمال‏.‏ ‏{‏وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ‏}‏ يعني العير فإنه لم يكن فيها إلا أربعون فارساً ولذلك يتمنونها ويكرهون ملاقاة النفير لكثرة عَدَدِهِمْ، وعُدَدِهِمْ والشوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك‏:‏ ‏{‏وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ‏}‏ أي يثبته ويعليه‏.‏ ‏{‏بكلماته‏}‏ الموحى بها في هذه الحال، أو بأوامره للملائكة بالإِمداد، وقرئ «بكلمته»‏.‏ ‏{‏وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين‏}‏ ويستأصلهم، والمعنى‏:‏ أنكم تريدون أن تصيبوا مالاً ولا تلقوا مكروهاً، والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق وما يحصل لكم فوز الدارين‏.‏

‏{‏لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل‏}‏ أي فعل ما فعل وليس بتكرير، لأن الأول لبيان المراد وما بينه وبين مرادهم من التفاوت، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة ونصرة عليها‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ المجرمون‏}‏ ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ‏}‏ بدل من ‏{‏إِذْ يَعِدُكُمُ‏}‏ أو متعلق بقوله ‏{‏ليحق‏}‏ بقوله ‏{‏لِيُحِقَّ الحق‏}‏، أو على إضمار اذكر، واستغاثتهم أنهم لما علموا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون‏:‏ أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه عليه السلام نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو‏:‏ ‏"‏ اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ‏"‏ فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فقال أبو بكر يا نبي الله‏:‏ كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك‏.‏ ‏{‏فاستجاب لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ‏}‏ بأني ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه الفعل وقرأ أبو عمرو بالكسر على إرادة القول أو إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول‏.‏ ‏{‏بِأَلْفٍ مّنَ الملئكة مُرْدِفِينَ‏}‏ متبعين المؤمنين أو بعضهم بعضاً من أردفته أنا إذا جئت بعده، أو متبعين بعضهم بعض المؤمنين، أو أنفسهم المؤمنين من أردفته إياه فردفه‏.‏ وقرأ نافع ويعقوب ‏"‏ مُرْدِفِينَ ‏"‏ بفتح الدال أي متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم‏.‏ وقرئ ‏{‏مُرْدِفِينَ‏}‏ بكسر الراء وضمها وأصله مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاء في الدال فالتقى ساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أو بالضم على الإتباع‏.‏ وقرئ «بآلاف» ليوافق ما في سورة «آل عمران»، ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة، أو وجوههم وأعيانهم، أو من قاتل منهم واختلف في مقاتلتهم وقد روي أخبار تدل عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا جَعَلَهُ الله‏}‏ أي الإمداد ‏{‏إِلاَّ بشرى‏}‏ إلا بشارة لكم بالنصر‏.‏ ‏{‏وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ‏}‏ فيزول ما بها من الوجل لقلتكم وذلتكم‏.‏ ‏{‏وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ وإمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوهما وسائط لا تأثير لها فلا تحسبوا النصر منها ولا تيأسوا منه بفقدها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس‏}‏ بدل ثان من ‏{‏إِذْ يَعِدُكُمُ‏}‏ لإِظهار نعمة ثالثة أو متعلق بالنصر أو بما في عند الله معنى الفعل، أو بجعل أو بإضمار اذكر‏.‏ وقرأ نافع بالتخفيف من أغشيته الشيء إذا غشيته إياه والفاعل على القراءتين هو الله تعالى وقرأ ابن كثير وأبو عمر «يغشاكم النعاس» بالرفع‏.‏ ‏{‏أَمَنَةً مّنْهُ‏}‏ أمنا من الله، وهو مفعول له باعتبار المعنى فإن قوله ‏{‏يُغَشّيكُمُ النعاس‏}‏ متضمن معنى تنعسون، و«يغشاكم» بمعناه، وال ‏{‏ءامِنَةً‏}‏ فعل لفاعله ويجوز أن يراد بها الإِيمان فيكون فعل المغشي، وأن تجعل على القراءة الأخيرة فعل النعاس على المجاز لأنها لأصحابه، أو لأنه كان من حقه أن لا يغشاكم لشدة الخوف فلما غشيهم فكأنه حصلت له أمنة من الله لولاها لم يغشهم كقوله‏:‏

يَهَابُ النَّوْمُ أنْ يَغْشَى عُيُونا *** تَهَابُكَ فَهُوَ نَفَّارٌ شَرُودُ

وَقرئ ‏{‏ءامِنَةً‏}‏ كرحمة وهي لغة‏.‏ ‏{‏وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ‏}‏ من الحدث والجنابة‏.‏ ‏{‏وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان‏}‏ يعني الجنابة لأنها من تخييله، أو وسوسته وتخويفه إياهم من العطش‏.‏ روي أنهم نزلوا في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء وناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركون على الماء، فوسوس إليهم الشيطان وقال‏:‏ كيف تنصرون، وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله، وفيكم رسوله فأشفقوا فأنزل الله المطر، فمطروا ليلاً حتى جرى الوادي واتخذوا الحياض على عدوته وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة‏.‏ ‏{‏وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ‏}‏ بالوثوق على لطف الله بهم‏.‏ ‏{‏وَيُثَبّتَ بِهِ الأقدام‏}‏ أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ يُوحِى رَبُّكَ‏}‏ بدل ثالث أو متعلق بيثبت‏.‏ ‏{‏إِلَى الملئكة أَنّي مَعَكُمْ‏}‏ في إعانتهم وتثبيتهم وهو مفعول ‏{‏يُوحِى‏}‏‏.‏ وقرئ بالكسر على إرادة القول أو إجراء الوحي مجراه‏.‏ ‏{‏فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ‏}‏ بالبشارة أو بتكثير سوادهم، أو بمحاربة أعدائهم فيكون قوله‏:‏ ‏{‏سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب‏}‏ كالتفسير لقوله ‏{‏أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ‏}‏، وفيه دليل على أنهم قاتلوا ومن منع ذلك جعل الخطاب فيه مع المؤمنين إما على تغيير الخطاب أو على أن قوله‏:‏ ‏{‏سَأُلْقِى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏كُلَّ بَنَانٍ‏}‏ تلقين للملائكة ما يثبتون المؤمنين به كأنه قال؛ قولوا لهم قوْلي هذا‏.‏ ‏{‏فاضربوا فَوْقَ الأعناق‏}‏ أعاليها التي هي المذابح أو الرؤوس‏.‏ ‏{‏واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ‏}‏ أصابع أي جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الضرب أو الأمر به والخطاب للرسول، أو لكل أحد من المخاطبين قبل‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ بسبب مشاقتهم لهما واشتقاقه من الشق لأن كلا من المتعادين في شق خلاف شق الآخر كالمعاداة من العدوة والمخاصمة من الخصم وهو الجانب‏.‏ ‏{‏وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ تقرير للتعليل أو وعيد بما أعد لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏ذلكم‏}‏ الخطاب فيه مع الكفرة على طريقة الالتفات ومحله الرفع أي‏:‏ الأمر ذلكم أو ذلكم واقع أو نصب يفعل دل عليه‏.‏ ‏{‏فَذُوقُوهُ‏}‏ أو غيره مثل باشروا أو عليكم فتكون الفاء عاطفة‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ للكافرين عَذَابَ النار‏}‏ عطف على ذلكم أو نصب على المفعول معه، والمعنى ذوقوا ما عجل لكم مع ما أجل لكم في الآخرة‏.‏ ووضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على أن الكفر سبب العذاب الآجل أو الجمع بينهما‏.‏ وقرئ ‏{‏وَأَنْ‏}‏ بالكسر على الاستئناف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً‏}‏ كثيراً بحيث يرى لكثرتهم كأنهم يزحفون، وهو مصدر زحف الصبي إذا دب على مقعده قليلاً قليلاً، سمي به وجمع على زحوف وانتصابه على الحال‏.‏ ‏{‏فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار‏}‏ بالانهزام فضلاً أن يكونوا مثلكم أو أقل منكم، والأظهر أنها محكمة مخصوصة بقوله‏:‏ ‏{‏حَرّضِ المؤمنين عَلَى القتال‏}‏ الآية، ويجوز أن ينتصب زحفاً حالاً من الفاعل والمفعول أي‏:‏ إذا لقيتموهم متزحفين يدبون إليكم وتدبون إليهم فلا تنهزموا، أو من الفاعل وحده ويكون إشعاراً بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم إِثنا عشر ألفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 20‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏16‏)‏ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏17‏)‏ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ‏(‏18‏)‏ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏19‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ‏}‏ يريد الكر بعد الفر وتغرير العدو، فإنه من مكايد الحرب‏.‏ ‏{‏أَوْ مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ‏}‏ أو منحازاً إلى فئة أخرى من المسلمين على القرب ليستعين بهم، ومنهم من لم يعتبر القرب لما روى ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففروا إلى المدينة فقلت‏:‏ يا رسول الله نحن الفرارون فقال‏:‏ ‏"‏ بل أنتم العكارون وأنا فئتكم ‏"‏ وانتصاب متحرفاً ومتحيزاً على الحال وإلا لغو لا عمل لها، أو الاستثناء من المولين أي إلا رجلاً متحرفاً أو متحيزاً، ووزن متحير متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزاً لأنه من حاز يحوز‏.‏ ‏{‏فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير‏}‏ هذا إذا لم يزد العدو على الضعف لقوله‏:‏ ‏{‏الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ‏}‏ الآية، وقيل الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرين معه في الحرب‏.‏

‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ‏}‏ بقوتكم‏.‏ ‏{‏ولكن الله قَتَلَهُمْ‏}‏ بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم‏.‏ روي‏:‏ أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك، اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام وقال له‏:‏ خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان تناول كفاً من الحصباء فرمى بها في وجوههم وقال «شاهت الوجوه»، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل قتلت وأسرت، فنزلت‏.‏ والفاء جواب شرط محذوف تقديره‏:‏ إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم‏.‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ‏}‏ يا محمد رمياً توصله إلى أعينهم ولم تقدر عليه‏.‏ ‏{‏إِذْ رَمَيْتَ‏}‏ أي إذ أتيت بصورة الرمي‏.‏ ‏{‏ولكن الله رمى‏}‏ أتى بما هو غاية الرمي فأوصلها إلى أعينهم جميعاً حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم، وقد عرفت أن اللفظ يطلق على المسمى وعلى ما هو كماله والمقصود منه‏.‏ وقيل معناه ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم‏.‏ وقيل إنه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم فجعل يخور حتى مات‏.‏ أو رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على فراشه، والجمهور على الأول‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ‏{‏ولكن‏}‏ بالتخفيف ورفع ما بعده في الموضعين‏.‏ ‏{‏وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا‏}‏ ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات فعل ما فعل‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لاستغاثتهم ودعائهم‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بنياتهم وأحوالهم‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى البلاء الحسن، أو القتل أو الرمي، ومحله الرفع أي المقصود أو الأمر ذلكم وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين‏}‏ معطوف عليه أي المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم‏.‏

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ‏{‏مُوهِنُ‏}‏ بالتشديد، وحفص ‏{‏مُوهِنُ كَيْدِ‏}‏ بالإِضافة والتخفيف‏.‏

‏{‏إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح‏}‏ خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم، وذلك أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا‏:‏ اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين‏.‏ ‏{‏وَإِن تَنتَهُواْ‏}‏ عن الكفر ومعاداة الرسول ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين‏.‏ ‏{‏وَإِن تَعُودُواْ‏}‏ لمحاربته‏.‏ ‏{‏نَعُدُّ‏}‏ لنصرته عليكم‏.‏ ‏{‏وَلَن تُغْنِىَ‏}‏ ولن تدفع‏.‏ ‏{‏عَنكُمْ فِئَتُكُمْ‏}‏ جماعتكم‏.‏ ‏{‏شَيْئاً‏}‏ من الإغناء أو المضار‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَثُرَتْ‏}‏ فئتكم‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين‏}‏ بالنصر والمعونة‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وحفص ‏{‏وَأَنْ‏}‏ بالفتح على تقدير ولأن الله مع المؤمنين كان ذلك‏.‏ وقيل الآية خطاب للمؤمنين والمعنى‏:‏ إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عما يستأثره الرسول فهو خير لكم وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدو، ولن تغني حينئذ كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر فإنه مع الكاملين في إيمانهم ويؤيد ذلك‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ‏}‏ أي ولا تتولوا عن الرسول، فإن المراد من الآية الأمر بطاعته والنهي عن الإِعراض عنه، وذكر طاعة الله للتوطئة والتنبيه على أن طاعة الله في طاعة الرسول لقوله تعالى ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله‏}‏ وقيل الضمير للجهاد أو للأمر الذي دل عليه الطاعة‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ‏}‏ القرآن والمواعظ سماع فهم وتصديق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا‏}‏ كالكفرة والمنافقين الذين ادعوا السماع‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ سماعاً ينتفعون به فكأنهم لا يسمعون رأساً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله‏}‏ شر ما يدب على الأرض، أو شر البهائم‏.‏ ‏{‏الصم‏}‏ عن الحق‏.‏ ‏{‏البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ إياه، عدهم من البهائم ثم جعلهم شرها لإِبطالهم ما ميزوا به وفضلوا لأجله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا‏}‏ سعادة كتبت لهم أو انتفاعاً بالآيات‏.‏ ‏{‏لأَسْمَعَهُمْ‏}‏ سماع تفهم‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ‏}‏ وقد علم أن لا خير فيهم‏.‏ ‏{‏لَتَوَلَّواْ‏}‏ ولم ينتفعوا به، أو ارتدوا بعد التصديق والقبول‏.‏ ‏{‏وَهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ لعنادهم‏.‏ وقيل كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أحيي لنا قصياً فإنه كان شيخاً مباركاً حتى يشهد لك ونؤمن بك‏.‏ والمعنى لأسمعهم كلام قصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ بالطاعة‏.‏ ‏{‏إِذَا دَعَاكُمْ‏}‏ وحد الضمير فيه لما سبق ولأن دعوة الله تسمع من الرسول‏.‏ وروي أنه عليه الصلاة والسلام مر على أبي وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال‏:‏ ما منعك عن إجابتي قال‏:‏ كنت أصلي، قال‏:‏ «ألم تخبر فيما أوحي إلي» ‏{‏استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ‏}‏‏.‏ واختلف فيه فقيل هذا لأن إجابته لا تقطع الصلاة فإن الصلاة أيضاً إجابة‏.‏ وقيل لأن دعاءه كان لأمر لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله وظاهر الحديث يناسب الأول‏.‏ ‏{‏لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏ من العلوم الدينية فإنها حياة القلب والجهل موته‏.‏ قال‏:‏

لاَ تعْجَبَنَّ الجَهُولَ حِلَّته *** فَذَاكَ مَيتٌ وَثَوْبُهُ كَفَن

أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال، أو من الجهاد فإنه سبب بقائكم إذ لو تركوه لغلبهم العدو وقتلهم، أو الشهادة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ‏}‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ‏}‏ تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد‏}‏ وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه صاحبها، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته، وبينه وبين الإِيمان إن قضى شقاوته‏.‏ وقرئ «بَيْنَ المرء» بالتشديد على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل مجرى الوقف على لغة من يشدد فيه‏.‏ ‏{‏وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ فيجازيكم بأعمالكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً‏}‏ اتقوا ذنباً يعمكم أثره كإقرار المنكر بين أظهركم والمداهنة في الأمر بالمعروف وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد على أن قوله لا تصيبن إما جواب الأمر على معنى أن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة بل تعمكم، وفيه أن جواب الشرط متردد فلا يليق به النون المؤكدة لكنه لما تضمن معنى النهي ساغ فيه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ‏}‏ وأما صفة ل ‏{‏لفتنة‏}‏، ولا للنفي وفيه شذوذ لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم، أو لنهي على إرادة القول كقوله‏:‏

حتى إذا جن الظلام واختلط *** جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط

وَإما جواب قسم محذوف كقراءة من قرأ لتصيبن وإن اختلفا في المعنى، ويحتمل أن يكون نهياً بعد الأمر باتقاء الذنب عن التعرض للظلم لأن وباله يصيب الظالم خاصة ويعود عليه، ومن في منكم على الوجه الأول للتبعيض وعلى الأخيرين للتبيين وفائدته التنبيه على أن الظلم منكم أقبح من غيركم‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 30‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏26‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏27‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأرض‏}‏ أرض مكة يستضعفكم قريش، والخطاب للمهاجرين‏.‏ وقيل للعرب كافة فإنهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم‏.‏ ‏{‏تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس‏}‏ كفار قريش أو من عداهم فإنهم كانوا جميعاً معادين لهم مضادين لهم‏.‏ ‏{‏فَآوَاكُمْ‏}‏ إلى المدينة، أو جعل لكم مأوى تتحصنون به عن أعاديكم‏.‏ ‏{‏وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ‏}‏ على الكفار أو بمظاهرة الأنصار، أو بإمداد الملائكة يوم بدر‏.‏ ‏{‏وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات‏}‏ من الغنائم‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ هذه النعم‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول‏}‏ بتعطيل الفرائض والسنن، أو بأن تضمروا خلاف ما تظهرون، أو بالغلول في المغانم‏.‏ وروي‏:‏ ‏(‏أنه عليه الصلاة والسلام حاصر بني قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوه الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحاء بأرض الشام، فأبى إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا‏:‏ أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحاً لهم لأن عياله وماله في أيديهم، فبعثه إليهم فقالوا ما ترى هل ننزل على حكم سعد بن معاذ، فأشار إلى حلقه أنه الذبح، قال أبو لبابة‏:‏ فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، فنزلت‏.‏ فشد نفسه على سارية في المسجد وقال‏:‏ والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله علي، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشياً عليه، ثم تاب الله عليه فقيل له‏:‏ قد تيب عليك فحل نفسك فقال‏:‏ لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي فقال عليه الصلاة والسلام «يجزيك الثلث أن تتصدق به» وأصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء التمام، واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه‏.‏ ‏{‏وَتَخُونُواْ أماناتكم‏}‏ فيما بينكم وهو مجزوم بالعطف على الأول أو منصوب على الجواب بالواو‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنكم تخونون، أو أنتم علماء تميزون الحسن من القبيح‏.‏

‏{‏واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ‏}‏ لأنهم سبب الوقوع في الإِثم أو العقاب، أو محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم فلا يحملنكم حبهم على الخيانة كأبي لبابة‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ لمن آثر رضا الله عليهم وراعى حدوده فيهم، فأنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا‏}‏ هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل أو نصراً يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين، أو مخرجاً من الشبهات، أو نجاة عما تحذرون في الدارين، أو ظهوراً يشهر أمركم ويبث صيتكم من قولهم بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أي الصبح‏.‏

‏{‏وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ‏}‏ ويسترها‏.‏ ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ بالتجاوز والعفو عنكم‏.‏ وقيل السيئات الصغائر والذنوب الكبائر‏.‏ وقيل المراد ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرهما الله تعالى لهم‏.‏ ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان، وأنه ليس مما يوجب تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاماً على عمل‏.‏

‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ تذكار لما مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في خلاصه‏.‏ من مكرهم واستيلائه عليهم، والمعنى واذكر إذ يمكرون بك‏.‏ ‏{‏لِيُثْبِتُوكَ‏}‏ بالوثاق أو الحبس، أو الإِثخان بالجرح من قولهم ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح، وقرئ ‏{‏لِيُثْبِتُوكَ‏}‏ بالتشديد «وليبيتوك» من البيات «وليقيدوك»‏.‏ ‏{‏أَوْ يَقْتُلُوكَ‏}‏ بسيوفهم‏.‏ ‏{‏أَوْ يُخْرِجُوكَ‏}‏ من مكة، وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم فرقوا واجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال‏:‏ أنا من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً فقال أبو البحتري‏:‏ رأيي أن تحبسوه في بيت وتسدوا منافذه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها حتى يموت، فقال الشيخ بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم، فقال هشام بن عمر ورأيي أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع، فقال بئس الرأي يفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم، فقال أبو جهل أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً وتعطوه سيفاً صارماً فيضربوه ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه‏.‏ فقال صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه، فأتى جبريل النبي عليهما السلام وأخبره الخبر وأمره بالهجرة، فبيت علياً رضي الله تعالى عنه في مضجعه وخرج مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار‏.‏ ‏{‏وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله‏}‏ برد مكرهم عليهم، أو بمجازاتهم عليه، أو بمعاملة الماكرين معهم بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا‏.‏ ‏{‏والله خَيْرُ الماكرين‏}‏ إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره، وإسناد أمثال هذا ما يحسن للمزاوجة ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا‏}‏ هو قول النضر بن الحارث، وإسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم فإنه كان قاصهم، أو قول الذين ائتمروا في أمره عليه الصلاة والسلام وهذا غاية مكابرتهم وفرط عنادهم، إذ لو استطاعوا ذلك فما منعهم أن يشاؤوا وقد تحداهم وقرعهم بالعجز عشر سنين، ثم قارعهم بالسيف فلم يعارضوا سورة مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا خصوصاً في باب البيان‏.‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين‏}‏ ما سطره الأولون من القصص‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏32‏)‏ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ هذا أيضاً من كلام ذلك القائل أبلغ في الجحود‏.‏ روي أنه لما قال النضر إن هذا إلا أساطير الأولين قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ويلك إنه كلام الله» فقال ذلك‏.‏ والمعنى إن كان هذا حقاً منزلاً فأمطر الحجارة علينا عقوبة على إنكاره، أو ائتنا بعذاب أليم سواه، والمراد منه التهكم وإظهار اليقين والجزم التام على كونه باطلاً‏.‏ وقرئ ‏{‏الحق‏}‏ بالرفع على أن ‏{‏هُوَ‏}‏ مبتدأ غير فصل، وفائدة التعريف فيه الدلالة على أن المعلق به كونه حقاً بالوجه الذي يدعيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو تنزيله لا الحق مطلقاً لتجويزهم أن يكون مطابقاً للواقع غير منزل كأساطير الأولين‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ بيان لما كان الموجب لإِمهالهم والتوقف في إجابة دعائهم، واللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم عذاب استئصال والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم خارج عن عادته غير مستقيم في قضائه، والمراد باستغفارهم إما استغفار من بقي فيهم من المؤمنين، أو قولهم اللهم غفرانك، أو فرصة على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله‏}‏ وما لهم مما يمنع تعذيبهم متى زال ذلك وكيف لا يعذبون‏.‏ ‏{‏وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام‏}‏ وحالهم ذلك ومن صدهم عنه إلجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الهجرة وإحصارهم عام الحديبية‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ‏}‏ مستحقين ولاية أمره مع شركهم، وهو رد لما كانوا يقولون نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء‏.‏ ‏{‏إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون‏}‏ من الشرك الذين لا يعبدون فيه غيره، وقيل الضميران ‏{‏لِلَّهِ‏}‏‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن لا ولاية لهم عليه كأنه نبه بالأكثر أن منهم من يعلم ويعاند، أو أراد به الكل كما يراد بالقلة العدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 40‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏35‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ‏(‏36‏)‏ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏37‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏39‏)‏ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت‏}‏ أي دعاؤهم أو ما يسمونه صلاة، أو ما يضعون موضعها‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مُكَاء‏}‏ صفيراً فعال من مكا يمكو إذا صفر‏.‏ وقرئ بالقصر كالبكا‏.‏ ‏{‏وَتَصْدِيَةً‏}‏ تصفيقاً تفعله من الصدا، أو من الصد على إبدال أحد حرفي التضعيف بالياء‏.‏ وقرئ ‏{‏صَلاَتِهِمْ‏}‏ بالنصب على أنه الخبر المقدم، ومساق الكلام لتقرير استحقاقهم العذاب أو عدم ولايتهم للمسجد فإنها لا تليق بمن هذه صلاته‏.‏ روي‏:‏ أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي يخلطون عليه ويرون أنهم يصلون أيضاً‏.‏ ‏{‏فَذُوقُواْ العذاب‏}‏ يعني القتل والأسر يوم بدر، وقيل عذاب الآخرة واللام يحتمل أن تكون للعهد والمعهود‏:‏ ‏{‏ائتنا بِعَذَابِ‏}‏‏.‏ ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ اعتقاداً وعملاً‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً من قريش يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر، أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من العرب سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية‏.‏ أو في أصحاب العير فإنه لما أصيب قريش ببدر قيل لهم أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك منه ثأرنا ففعلوا، والمراد ب ‏{‏سَبِيلِ الله‏}‏ دينه واتباع رسوله‏.‏ ‏{‏فَسَيُنفِقُونَهَا‏}‏ بتمامها ولعل الأول إخبار عن إنفاقهم في تلك الحال وهو إنفاق بدر، والثاني إخبار عن إنفاقهم فيما يستقبل وهو إنفاق أحد، ويحتمل أن يراد بهما واحد على أن مساق الأول لبيان غرض الإِنفاق ومساق الثاني لبيان عاقبته وإنه لم يقع بعد‏.‏ ‏{‏ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً‏}‏ ندماً وغماً لفواتها من غير مقصود جعل ذاتها تصير حسرة وهي عاقبة إنفاقها مبالغة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُغْلَبُونَ‏}‏ آخر الأمر وإن كان الحرب بينهم سجالاً قبل ذلك‏.‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ‏}‏ أي الذين ثبتوا على الكفر منهم إذا أسلم بعضهم‏.‏ ‏{‏إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ‏}‏ يساقون‏.‏

‏{‏لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب‏}‏ الكافر من المؤمن، أو الفساد من الصلاح‏.‏ واللام متعلقة ب ‏{‏يُحْشَرُونَ‏}‏ أو ‏{‏يُغْلَبُونَ‏}‏ أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أنفقه المسلمون في نصرته، واللام متعلقة بقوله ‏{‏ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب ‏{‏لِيَمِيزَ‏}‏ من التمييز وهو أبلغ من الميز‏.‏ ‏{‏وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً‏}‏ فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم، أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابه كمال الكانزين‏.‏ ‏{‏فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ‏}‏ كله‏.‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الخبيث لأنه مقدر بالفريق الخبيث أو إلى المنفقين‏.‏

‏{‏هُمُ الخاسرون‏}‏ الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم‏.‏

‏{‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ يعني أبا سفيان وأصحابه والمعنى قل لأجلهم‏.‏ ‏{‏إِن يَنتَهُواْ‏}‏ عن معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدخول في الإسلام‏.‏ ‏{‏يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏ من ذنوبهم، وقرئ بالتاء والكاف على أنه خاطبهم و‏{‏يَغْفِرُ‏}‏ على البناء للفاعل وهو الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَإِن يَعُودُواْ‏}‏ إلى قتاله‏.‏ ‏{‏فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين‏}‏ الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثل ذلك‏.‏

‏{‏وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ لا يوجد فيهم شرك‏.‏ ‏{‏وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ‏}‏ وتضمحل عنهم الأديان الباطلة‏.‏ ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ‏}‏ عن الكفر‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامهم‏.‏ وعن يعقوب «تعملون» بالتاء على معنى فإن الله بما تعملون من الجهاد والدعوة إلى الإِسلام والإِخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإِيمان بصير، فيجازيكم ويكون تعليقه بانتهائهم دلالة على أنه كما يستدعي إثابتهم للمباشرة يستدعي إثابة مقاتليهم للتسبب‏.‏

‏{‏وَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ ولم ينتهوا‏.‏ ‏{‏فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ‏}‏ ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم‏.‏ ‏{‏نِعْمَ المولى‏}‏ لا يضيع من تولاه‏.‏ ‏{‏وَنِعْمَ النصير‏}‏ لا يغلب من نصره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم‏}‏ أي الذي أخذتموه من الكفار قهراً‏.‏‏.‏ ‏{‏مِن شَئ‏}‏ مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط‏.‏ ‏{‏فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ‏}‏ مبتدأ خبره محذوف أي‏:‏ فثابت أن لله خمسة‏.‏ وقرئ فإن بالكسر والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كما في قوله‏:‏ ‏{‏والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏ وأن المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين ‏{‏وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ فكأنه قال‏:‏ فأن لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصين به‏.‏ وحكمه بعد، باق غير أن سهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كما فعله الشيخان رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وقيل إلى الإمام‏.‏ وقيل إلى الأصناف الأربعة‏.‏ وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه سقط سهمه وسهم ذوي القربى بوفاته وصار الكل مصروفاً إلى الثلاثة الباقية‏.‏ وعن مالك رضي الله تعالى عنه الأمر فيه مفوض إلى رأي الإمام يصرفه إلى ما يراه أهم، وذهب أبو العالية إلى ظاهر الآية فقال يقسم ستة أقسام ويصرف سهم الله إلى الكعبة لما روي ‏(‏أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ قبضة منه فيجعلها للكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة‏)‏‏.‏ وقيل سهم الله لبيت المال‏.‏ وقيل هو مضموم إلى سهم الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذوو القربى‏:‏ بنو هاشم، وبنو المطلب‏.‏ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قسم سهم ذوي القربى عليهما فقال له عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما‏:‏ هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام وشبك بين أصابعه» وقيل بنو هاشم وحدهم‏.‏ وقيل جميع قريش الغني والفقير فيه سواء‏.‏ وقيل هو مخصوص بفقرائهم كسهم بن السبيل‏.‏ وقيل الخمس كله لهم والمراد باليتامى والمساكين وابن السبيل من كان منهم والعطف للتخصيص‏.‏ والآية نزلت ببدر‏.‏ وقيل الخمس كان في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة‏.‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ‏}‏ متعلق بمحذوف دل عليه ‏{‏واعلموا‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية، فإن العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد لأنه مقصود بالعرض والمقصود بالذات هو العمل‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والملائكة والنصر‏.‏ وقرئ ‏{‏عَبْدَنَا‏}‏ بضمتين أي الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏ ‏{‏يَوْمَ الفرقان‏}‏ يوم بدر فإنه فرق فيه بين الحق والباطل‏.‏ ‏{‏يَوْمَ التقى الجمعان‏}‏ المسلمون والكافرون‏.‏ ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ فيقدر على نصر القليل على الكثير والإِمداد بالملائكة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا‏}‏ بدل من ‏{‏يَوْمَ الفرقان‏}‏، والعدوة بالحركات الثلاث شط الوادي وقد قرئ بها، والمشهور الضم والكسر وهو قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب‏.‏ ‏{‏وَهُم بالعدوة القصوى‏}‏ البعدى من المدينة، تأنيث الأقصى وكان قياسه قلب الواو ياء كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة فجاء على الأصل كالقود وهو أكثر استعمالاً من القصيا‏.‏ ‏{‏والركب‏}‏ أي العير أو قوادها‏.‏ ‏{‏أَسْفَلَ مِنكُمْ‏}‏ في مكان أسفل من مكانكم يعني الساحل، وهو منصوب على الظرف واقع موقع الخبر والجملة حال من الظرف قبله، وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارهم بالركب وحرصهم على المقاتلة عنها وتوطين نفوسهم على أن لا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى جهدهم، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم واستبعاد غلبتهم عادة، وكذا ذكر مراكز الفريقين فإن العدوة الدنيا كانت رخوة تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ولم يكن بها ماء، بخلاف العدوة القصوى وكذا قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد‏}‏ أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال ثم علمتم حالكم وحالهم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم، ويأساً من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صنعاً من الله تعالى خارقاً للعادة فيزدادوا إيماناً وشكراً‏.‏ ‏{‏ولكن‏}‏ جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد‏.‏ ‏{‏لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً‏}‏ حقيقاً بأن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه، وقوله‏:‏ ‏{‏لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ‏}‏ بدل منه أو متعلق بقوله مفعولاً والمعنى‏:‏ ليموت من يموت عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة‏.‏ أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة على استعارة الهلاك والحياة للكفر والإِسلام، والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة، أو من هذا حاله في علم الله وقضائه‏.‏ وقرئ «ليَهْلَكَ» بالفتح وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر ويعقوب من «حيي» بفك الإِدغام للحمل على المستقبل‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ بكفر من كفر وعقابه، وإيمان من آمن وثوابه، ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً‏}‏ مقدر باذكر أو بدل ثان من يوم الفرقان، أو متعلق بعليم أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبر به أصحابك فيكون تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ‏}‏ لجبنتم‏.‏ ‏{‏ولتنازعتم فِى الأمر‏}‏ في أمر القتال وتفرقت آراؤكم بين الثبات والفرار‏.‏ ‏{‏ولكن الله سَلَّمَ‏}‏ أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ يعلم ما سيكون فيها وما يغير أحوالها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً‏}‏ الضميران مفعولا يرى و‏{‏قَلِيلاً‏}‏ حال من الثاني، وإنما قللهم في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لمن إلى جنبه أتراهم سبعين فقال أراهم مائة، تثبيتاً لهم وتصديقاً لرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ‏}‏ حتى قال أبو جهل‏:‏ إن محمداً وأصحابه أكلة جزور، وقللهم في أعينهم قبل التحام القتال ليجترءوا عليهم ولا يستعدوا لهم، ثم كثرهم حتى يرونهم مثليهم لتفجأهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم، وهذا من عظائم آيات تلك الوقعة فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلاً والقليل كثيراً لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد، وإنما يتصور ذلك بصد الله الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي في الشروط‏.‏ ‏{‏لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً‏}‏ كرره لاختلاف الفعل المعلل به، أو لأن المراد بالأمر ثمة الاكتفاء على الوجه المحكي وها هنا إعزاز الإِسلام وأهله وإذلال الإشراك وحزبه‏.‏ ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً‏}‏ حاربتم جماعة ولم يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار، واللقاء مما غلب في القتال‏.‏ ‏{‏فاثبتوا‏}‏ للقائهم‏.‏ ‏{‏واذكروا الله كَثِيراً‏}‏ في مواطن الحرب داعين له مستظهرين بذكره مترقبين لنصره‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة، وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشراشره فارغ البال واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في شيء من الأحوال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تنازعوا‏}‏ باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر أو أحد‏.‏ ‏{‏فَتَفْشَلُواْ‏}‏ جواب النهي‏.‏ وقيل عطف عليه ولذلك قرئ‏:‏ ‏{‏وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ‏}‏ بالجزم، والريح مستعارة للدولة من حيث إنها في تمشي أمرها ونفاذه مشبهة بها في هبوبها ونفوذها‏.‏ وقيل المراد بها الحقيقة فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله وفي الحديث «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» ‏{‏واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين‏}‏ بالكلاءة والنصرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم‏}‏ يعني أهل مكة حين خرجوا منها لحماية العير‏.‏ ‏{‏بَطَراً‏}‏ فخراً وأشراً‏.‏ ‏{‏وَرِئَاء الناس‏}‏ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة، وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة وافاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فقال أبو جهل‏:‏ لا والله حتى نقدم بدراً ونشرب فيها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب، فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا وناحت عليهم النوائح، فنهى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين، وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص من حيث إن النهي عن الشيء أمر بضده‏.‏ ‏{‏وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ معطوف على بطراً إن جعل مصدراً في موضع الحال وكذا إن جعل مفعولاً له لكن على تأويل المصدر‏.‏ ‏{‏والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ فيجازيكم عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان‏}‏ مقدر باذكر‏.‏ ‏{‏أعمالهم‏}‏ في معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها بأن وسوس إليهم‏.‏ ‏{‏وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ‏}‏ مقالة نفسانية والمعنى‏:‏ أنه ألقى في روعهم وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون لكثرة عددهم وعدتهم، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا‏:‏ اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين، ولكم خبر لا غالب أو صفته وليس صلته وإلا لانتصب كقولك‏:‏ لا ضارباً زيداً عندنا‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان‏}‏ أي تلاقى الفريقان‏.‏ ‏{‏نَكَصَ على عَقِبَيْهِ‏}‏ رجع القهقرى أي بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم‏.‏ ‏{‏وَقَالَ إِنّي بَرِئ مّنْكُمْ إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ الله‏}‏ أي تبرأ منهم وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة، وقيل‏:‏ لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينهم وبين كنانة من الإِحنة وكاد ذلك يثنيهم، فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وقال لا غالب لكم اليوم وإني مجيركم من بني كنانة، فلما رأى الملائكة تنزل نكص وكان يده في يد الحارث بن هشام فقال له‏:‏ إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة فقال إني أرى ما لا ترون، ودفع في صدر الحارث وانطلق وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغه ذلك فقال‏:‏ والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان‏.‏ وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ الله‏}‏ إني أخافه أن يصيبني بمكروه من الملائكة أو يهلكني ويكون الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم ير قبله، والأول ما قاله الحسن واختاره ابن بحر‏.‏ ‏{‏والله شَدِيدُ العقاب‏}‏ يجوز أن يكون من كلامه وأن يكون مستأنفاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ والذين لم يطمئنوا إلى الإِيمان بعد وبقي في قلوبهم شبهة‏.‏ وقيل هم المشركون‏.‏ وقيل المنافقون والعطف لتغاير الوصفين‏.‏ ‏{‏غَرَّ هَؤُلاء‏}‏ يعنون المؤمنين‏.‏ ‏{‏دِينَهُمُ‏}‏ حتى تعرضوا لما لا يدي لهم به فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشرة إلى زهاء ألف‏.‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ جواب لهم‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ غالب لا يذل من استجار به وإن قل ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ويعجز عن إدراكه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 56‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏50‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏51‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏52‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏53‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏54‏)‏ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏55‏)‏ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى‏}‏ ولو رأيت فإن لو تجعل المضارع ماضياً عكس إن‏.‏ ‏{‏إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملئكة‏}‏ ببدر، وإذ ظرف ترى والمفعول محذوف أي ولو ترى الكفرة أو حالهم حينئذ، والملائكة فاعل يتوفى ويدل عليه قراءة ابن عامر بالتاء ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الله عز وجل وهو مبتدأ خبره ‏{‏يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ‏}‏ والجملة حال من الذين كفروا، واستغني فيه بالضمير عن الواو وهو على الأول حال منهم أو من الملائكة أو منهما لاشتماله على الضميرين‏.‏ ‏{‏وأدبارهم‏}‏ ظهورهم أو أستاههم، ولعل المراد تعميم الضرب أي يضربون ما أقبل منهم وما أدبر‏.‏ ‏{‏وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق‏}‏ عطف على يضربون بإضمار القول أي ويقولون ذوقوا بشارة لهم بعذاب الآخرة‏.‏ وقيل كانت معهم مقامع من حديد كلما ضربوا التهبت النار منها، وجواب ‏{‏لَوْ‏}‏ محذوف لتفظيع الأمر وتهويله‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ الضرب والعذاب‏.‏ ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ بسبب ما كسبت من الكفر والمعاصي وهو خبر لذلك‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ عطف على «ما» للدلالة على أن سببيته بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم‏.‏ فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعاً ولا عقلاً حتى ينتهض نفي الظلم سبباً للتعذيب وظلام التكثير لأجل العبيد‏.‏

‏{‏كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ‏}‏ أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون وهو عملهم وطريقهم الذي دأبوا فيه أي داموا عليه‏.‏ ‏{‏والذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ من قبل آل فرعون‏.‏ ‏{‏كَفَرُواْ بئايات الله‏}‏ تفسير لدأبهم‏.‏ ‏{‏فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ كما أخذ هؤلاء‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب‏}‏ لا يغلبه في دفعه شيء‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما حل بهم‏.‏ ‏{‏بِأَنَّ الله‏}‏ بسبب أن الله‏.‏ ‏{‏لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ‏}‏ مبدلاً إياها بالنقمة‏.‏ ‏{‏حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ‏}‏ يبدلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوأ، كتغيير قريش حالهم في صلة الرحم والكف عن تعرض الآيات والرسل بمعادة الرسول عليه الصلاة والسلام ومن تبعه منهم، والسعي في إراقة دمائهم والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد المبعث، وليس السبب عدم تغيير الله ما أنعم عليهم حتى يغيروا حالهم بل ما هو المفهوم له وهو جري عادته على تغييره متى يغيروا حالهم، وأصل يك يكون فحذفت الحركة للجزم ثم الواو لالتقاء الساكنين ثم النون لشبهه بالحروف اللينة تخفيفاً‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لما يقولون‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بما يفعلون‏.‏

‏{‏كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيات رَبّهِمْ فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ‏}‏ تكرير للتأكيد ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله‏:‏ ‏{‏بآيات رَبّهِمْ‏}‏ وبيان ما أخذ به آل فرعون‏.‏ وقيل الأول لتشبيه الكفر والأخذ به والثاني لتشبيه التغيير في النعمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم‏.‏

‏{‏وَكُلٌّ‏}‏ من الفرق المكذبة، أو من غرقى القبط وقتلى قريش‏.‏ ‏{‏كَانُواْ ظالمين‏}‏ أنفسهم بالكفر والمعاصي‏.‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ‏}‏ أصروا على الكفر ورسخوا فيه‏.‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ فلا يتوقع منهم إيمان، ولعله إخبار عن قوم مطبوعين على الكفر بأنهم لا يؤمنون، والفاء للعطف والتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف، وقوله‏:‏

‏{‏الذين عاهدت مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّةٍ‏}‏ بدل من الذين كفروا بدل البعض للبيان والتخصيص، وهم يهود قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح وقالوا‏:‏ نسينا ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم‏.‏ ومن لتضمين المعاهدة معنى الأخذ والمراد بالمرة مرة المعاهدة أو المحاربة‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ‏}‏ سبة الغدر ومغبته، أو لا يتقون الله فيه أو نصره للمؤمنين وتسليطه إياهم عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ‏}‏ فإما تصادفنهم وتظفرن بهم، ‏{‏فِى الحرب فَشَرّدْ بِهِم‏}‏ ففرق عن مناصبتك ونكل عنها بقتلهم والنكاية فيهم ‏{‏مّنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ من وراءهم من الكفرة والتشريد تفريق على اضطراب‏.‏ وقرئ «فشرذ» بالذال المعجمة وكأنه مقلوب شذر و‏{‏مّنْ خَلْفِهِمْ‏}‏، والمعنى واحد فإنه إذا شرد من وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ لعل المشردين يتعظون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ‏}‏ معاهدين‏.‏ ‏{‏خِيَانَةً‏}‏ نقض عهد بأمارات تلوح لك‏.‏ ‏{‏فانبذ إِلَيْهِمْ‏}‏ فاطرح إلَيْهِمْ عهدهم‏.‏ ‏{‏على سَوَاء‏}‏ على عدل وطريق قصد في العداوة ولا تناجزهم الحرب فإنه يكون خيانة منك، أو على سواء في الخوف أو العلم بنقض العهد وهو في موضع الحال من النابذ على الوجه الأول أي ثابتاً على طريق سوي أو منه أو من المنبوذ إليهم أو منهما على غيره، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين‏}‏ تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال على طريقة الاستئناف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ‏}‏ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله‏:‏ ‏{‏الذين كَفَرُواْ سَبَقُواْ‏}‏ مفعولاه وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص بالياء على أن الفاعل ضمير أحد أو ‏{‏مّنْ خَلْفِهِمْ‏}‏، أو ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ والمفعول الأول أنفسهم فحذف للتكرار، أو على تقدير أن ‏{‏سَبَقُواْ‏}‏ وهو ضعيف لأن أن المصدرية كالموصول فلا تحذف أو على إيقاع الفعل على‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ‏}‏ بالفتح على قراءة ابن عامر وأن ‏{‏لا‏}‏ صلة و‏{‏سَبَقُواْ‏}‏ حال بمعنى سابقين أي مفلتين، والأظهر أنه تعليل للنهي أي‏:‏ لا تحسبنهم سبقوا فأفلتوا لأنهم لا يفوتون الله، أو لا يجدون طالبهم عاجزاً‏.‏ عن إدراكهم وكذا إن كسرت إن إلا أنه تعليل على سبيل الاستئناف، ولعل الآية إزاحة لما يحذر به من نبذ العهد وإيقاظ العدو، وقيل نزلت فيمن أفلت من فل المشركين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَعِدُّواْ‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏لَهُمْ‏}‏ لناقضي العهد أو الكفار‏.‏ ‏{‏مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ‏}‏ من كل ما يتقوى به في الحرب‏.‏ وعن عقبة بن عامر سمعته عليه الصلاة والسلام يقول على المنبر ‏"‏ ألا إن القوة الرمي قالها ثلاثاً ‏"‏ ولعله عليه الصلاة والسلام خصه بالذكر لأنه أقواه‏.‏ ‏{‏وَمِن رّبَاطِ الخيل‏}‏ اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، فعال بمعنى مفعول أو مصدر سمي به يقال ربط ربطاً ورباطاً ورابط مرابطة ورباطاً، أو جمع ربيط كفصيل وفصال‏.‏ وقرئ «ربط الخيل» بضم الباء وسكونها جمع رباط وعطفها على القوة كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة‏.‏ ‏{‏تُرْهِبُونَ بِهِ‏}‏ تخوفون به، وعن يعقوب ‏{‏تُرْهِبُونَ‏}‏ بالتشديد والضمير ل ‏{‏مَّا استطعتم‏}‏ أو للإِعداد‏.‏ ‏{‏عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ‏}‏ يعني كفار مكة‏.‏ ‏{‏وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ‏}‏ من غيرهم من الكفرة‏.‏ قيل هم اليهود وقيل المنافقون وقيل الفرس‏.‏ ‏{‏لاَ تَعْلَمُونَهُمُ‏}‏ لا تعرفونهم بأعيانهم‏.‏ ‏{‏الله يَعْلَمُهُمْ‏}‏ يعرفهم‏.‏ ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَئ فِى سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ‏}‏ جزاؤه‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ‏}‏ بتضييع العمل أو نقص الثواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن جَنَحُواْ‏}‏ مالوا ومنه الجناح‏.‏ وقد يعدى باللام وإلى ‏{‏لِلسَّلْمِ‏}‏ للصلح أو الاستسلام‏.‏ وقرأ أبو بكر بالكسر‏.‏ ‏{‏فاجنح لَهَا‏}‏ وعاهد معهم وتأنيث الضمير لحمل السلم على نقيضها فيه‏.‏ قال‏:‏

السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنهَا مَا رَضِيْتَ بِه *** وَالحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أنْفَاسِهَا جَرَعُ

وقرئ «فاجْنُحْ» بالضم‏.‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ ولا تخف من إبطانهم خداعاً فيه، فإن الله يعصمك من مكرهم ويحيقه بهم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع‏}‏ لأقوالهم‏.‏ ‏{‏العليم‏}‏ بنياتهم‏.‏ والآية مخصوصة بأهل الكتاب لاتصالها بقصتهم وقيل عامة نسختها آية السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله‏}‏ فإن محسبك الله وكافيك قال جرير‏:‏

إِنِّي وَجَدْتُ مِنَ المَكَارِمْ حَسْبَكُم *** أَنْ تَلْبِسُوا حرَّ الثِيَابِ وَتَشْبَعُوا

‏{‏هُوَ الذى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين‏}‏ جميعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ مع ما فيهم من العصبية والضغينة في أدنى شيء، والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا كنفس واحدة، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، وبيانه‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرض جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي تناهي عداوتهم إلى حد لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر على الألفة والإِصلاح‏.‏ ‏{‏ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ‏}‏ بقدرته البالغة، فإنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ عَزِيزٌ‏}‏ تام القدرة والغلبة لا يعصى عليه ما يريده‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ يعلم أنه كيف ينبغي أن يفعل ما يريده، وقيل الآية في الأوس والخزرج كان بينهم محن لا أمد لها ووقائع هلكت فيها ساداتهم، فأنساهم الله ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافوا وصاروا أنصاراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها النبى حَسْبُكَ الله‏}‏ كافيك‏.‏ ‏{‏وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين‏}‏ أما في محل النصب على المفعول معه كقوله‏:‏

إِذَا كَانت الهَيْجَاء وَاشْتَجَرَ القَنَا *** فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكُ سَيْفٌ مُهَنَّد

أو الجر عطفاً على المكني عند الكوفيين، أو الرفع عطفاً على اسم الله تعالى أي كفاك الله والمؤمنون‏.‏ والآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر، وقيل أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة، ثم أسلم عمر رضي الله عنه فنزلت‏.‏ ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في إسلامه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها النبى حَرّضِ المؤمنين عَلَى القتال‏}‏ بالغ في حثهم عليه، وأصله الحرض وهو أن ينهكه المرض حتى يشفى على الموت وقرئ «حرص» من الحرص‏.‏ ‏{‏إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد للعشرة، والوعد بأنهم إن صبروا غلبوا بعون الله وتأييده‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر تكن بالتاء في الآيتين ووافقهم البصريان في ‏{‏وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ‏}‏‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ‏}‏ بسبب أنهم جهلة بالله واليوم الآخر لا يثبتون ثبات المؤمنين رجاء الثواب وعوالي الدرجات قَتَلُوا أو قُتِلُوا ولا يستحقون من الله إلا الهوان والخذلان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 70‏]‏

‏{‏الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏66‏)‏ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏67‏)‏ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏68‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏69‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله‏}‏ لما أوجب على الواحد مقاومة العشرة والثبات لهم وثقل ذلك عليهم خفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين، وقيل كان فيهم قلة فأمروا بذلك ثم لما كثروا خفف عنهم، وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد والضعف ضعف البدن‏.‏ وقيل ضعف البصيرة وكانوا متفاوتين فيها، وفيه لغتان الفتح وهو قراءة عاصم وحمزة والضم وهو قراءة الباقين‏.‏ ‏{‏والله مَعَ الصابرين‏}‏ بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون‏.‏

‏{‏مَا كَانَ لِنَبِىٍّ‏}‏ وقرئ «للنبي» على العهد‏.‏ ‏{‏أَن يَكُونَ لَهُ أسرى‏}‏ وقرأ البصريان بالتاء‏.‏ ‏{‏حتى يُثْخِنَ فِي الأرض‏}‏ يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه ويعز الإِسلام ويستولي أهله، من أثخنه المرض إذا أثقله وأصله الثخانة، وقرئ ‏{‏يُثْخِنَ‏}‏ بالتشديد للمبالغة‏.‏ ‏{‏تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا‏}‏ حطامها بأخذكم الفداء‏.‏ ‏{‏والله يُرِيدُ الأخرة‏}‏ يريد لكم ثواب الآخرة أو سبب نيل ثواب الآخرة من إعزاز دينه وقمع أعدائه‏.‏ وقرئ بجر ‏"‏ الآخِرَةِ ‏"‏ على إضمار المضاف كقوله‏:‏

أَكُلَّ امْرِئ تَحْسَبِينَ امْرَأ *** وَنَارٌ تُوقَدُ بِاللَّيْلِ نَاراً

‏{‏والله عَزِيزٌ‏}‏ يغلب أولياءه على أعدائه‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها، كما أمر بالإِثخان ومنع عن الافتداء حين كانت الشوكة للمشركين وخير بينه وبين المن لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين‏.‏ روي أنه عليه الصلاة والسلام أتى يوم بدر بسبعين أسيراً فيهم العباس وعقيل بن أبي طالب فاستشار فيهم فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه‏:‏ قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك، وقال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ اضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء، مكني من فلان لنسيب له ومكن علياً وحمزة من أخويهما فنضرب أعناقهم، فلم يهو ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال‏:‏ ‏{‏فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ومثلك يا عمر مثل نوح قال‏:‏ ‏{‏رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً‏}‏ فخير أصحابه فأخذوا الفداء، فنزلت فدخل عمر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال‏:‏ «يا رسول الله أخبرني فإن أجد بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال‏:‏ ‏"‏ ابك على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة، لشجرة قريبة ‏"‏

والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يقرون عليه‏.‏

‏{‏لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ‏}‏ لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح المحفوظ، وهو أن لا يعاقب المخطئ في اجتهاده أو أن لا يعذب أهل بدر أو قوماً بما لم يصرح لهم بالنهي عنه، أو أن الفدية التي أخذوها ستحل لهم‏.‏ ‏{‏لَمَسَّكُمْ‏}‏ لنالكم‏.‏ ‏{‏فِيمَا أَخَذْتُمْ‏}‏ من الفداء‏.‏ ‏{‏عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ روي أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏"‏ لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ ‏"‏ وذلك لأنه أيضاً أشار بالإثخان‏.‏

‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ‏}‏ من الفدية فإنها من جملة الغنائم‏.‏ وقيل أمسكوا عن الغنائم فنزلت‏.‏ والفاء للتسبب والسبب محذوف تقديره‏:‏ أبحت لكم الغنائم فكلوا، وبنحوه تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة‏.‏ ‏{‏حلالا‏}‏ حال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلاً حلالاً، وفائدته إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة، أو حرمتها على الأولين ولذلك وصفه بقوله‏:‏ ‏{‏طَيّباً واتقوا الله‏}‏ في مخالفته‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ غفر لكم ذنبكم ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ أباح لكم ما أخذتم‏.‏

‏{‏يا أيها النبى قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الأسرى‏}‏ وقرأ أبو عمرو «من الأسارى»‏.‏ ‏{‏إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً‏}‏ إيماناً وإخلاصاً‏.‏ ‏{‏يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ‏}‏ من الفداء‏.‏ روي ‏"‏ أنها نزلت في العباس رضي الله عنه كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه وابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فقال‏:‏ يا محمد تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت فقال‏:‏ أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك وقلت لها‏:‏ إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم، فقال العباس‏:‏ وما يدريك، قال‏:‏ أخبرني به ربي تعالى، قال‏:‏ فأشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك رسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل، قال العباس فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربكم ‏"‏ يعني الموعود بقوله‏:‏ ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن يُرِيدُواْ‏}‏ يعني الأسرى‏.‏ ‏{‏خِيَانَتَكَ‏}‏ نقض ما عاهدوك‏.‏ ‏{‏فَقَدْ خَانُواْ الله‏}‏ بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ بالعقل‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ‏}‏ أي فأمكنك منهم كما فعل يوم بدر فإن أعادوا الخيانة فسيمكنك منهم‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ‏}‏ هم المهاجرون هجروا أوطانهم حباً لله ولرسوله‏.‏ ‏{‏وجاهدوا بأموالهم‏}‏ فصرفوها في الكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج‏.‏ ‏{‏وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ بمباشرة القتال‏.‏ ‏{‏والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ‏}‏ هم الأنصار آووا المهاجرين إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏ في الميراث، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب حتى نسخ بقوله‏:‏ ‏{‏وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ‏}‏ أو بالنصرة والمظاهرة‏.‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مّن ولايتهم مّن شَئ حتى يُهَاجِرُواْ‏}‏ أي من توليهم في الميراث، وقرأ حمزة ‏{‏ولايتهم‏}‏ بالكسر تشبيهاً لها بالعمل والصناعة كالكتابة والإمارة كأنه بتوليه صاحبه يزاول عملاً‏.‏ ‏{‏وَإِنِ استنصروكم فِى الدين فَعَلَيْكُمُ النصر‏}‏ فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين‏.‏ ‏{‏إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ‏}‏ عهد فإنه لا ينقض عهدهم لنصرهم عليهم‏.‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏ في الميراث أو المؤازرة، وهو بمفهومه يدل على منع التوارث أو المؤازرة بينهم وبين المسلمين‏.‏ ‏{‏إِلاَّ تَفْعَلُوهُ‏}‏ إلا تفعلوا ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولى بعضكم لبعض حتى في التوارث وقطع العلائق بينكم وبين الكفار‏.‏ ‏{‏تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأرض‏}‏ تحصل فتنة فيها عظيمة، وهي ضعف الإيمان وظهور الكفر‏.‏ ‏{‏وَفَسَادٌ كَبِيرٌ‏}‏ في الدين وقرئ كثير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً‏}‏ لما قسم المؤمنين ثلاثة أقسام بين أن الكاملين في الإيمان منهم هم الذين حققوا إيمانهم بتحصيل مقتضاه من الهجرة والجهاد وبذل المال ونصرة الحق، ووعد لهم الموعد الكريم فقال‏.‏ ‏{‏لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ لا تبعة له ولا منة فيه، ثم ألحق بهم في الأمرين من سيلحق بهن ويتسم بسمتهم فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ‏}‏ أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار‏.‏ ‏{‏وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ‏}‏ في التوارث من الأجانب‏.‏ ‏{‏فِى كتاب الله‏}‏ في حكمه، أو في اللوح أو في القرآن واستدل به على توريث ذوي الأرحام‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ من الموارث والحكمة في إناطتها بنسبة الإِسلام والمظاهرة، أولاً واعتبار القرابة ثانياً‏.‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة، وشاهد أنه بريء من النفاق، وأعطي حسنات بعدد كل منافق ومنافقة، وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته»‏.‏